فصل: تفسير الآية رقم (138):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (137):

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
{قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته، وقال المفضل: إن المراد بها الأمم، وقد جاءت السنة عنى الأمة في كلامهم، ومنه قوله:
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ** ولا رأوا مثلكم في سالف السنن

وقال عطاء: المراد بها الشرائع والأديان، فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق كما قيل وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادي الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي، وذكر مضي الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتًا للمؤمنين على دين النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود أن دين موسى عليه السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضًا لليهود وحثًا على قبول دين الإسلام وإنذارًا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين، نعم إطلاق السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة، ومنه قولهم: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو حذوف وقع حالًا من {سُنَنَ} أي سنن كائنة من قبلكم.
{فَسِيرُواْ فِي الأرض} أي بأقدامكم أو بأفهامكم {فانظروا} أي تأملوا. {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما، وقيل: المعنى على الشرط أي إن شككتم فسيروا إلخ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين، وقال النقاش: للكفار وفيه بعد و{كَيْفَ} خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث.

.تفسير الآية رقم (138):

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
الإشارة إما إلى القرآن وهو المروي عن الحسن وقتادة وخدش بأنه بعيد عن السياق وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين، وقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ} [آل عمران: 137] الآية اعتراض للبعث على الإيمان والتقوى والتوبة كما قيل ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص، واعترض عليه بأنه تعسف، وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ} إلخ، وهو المروي عن أبي إسحق، واختاره الطبري والبلخي وكثير من المتأخرين.
وأل في الناس للعهد، والمراد بهم المكذبون، والظرف إما متعلق ببيان أو حذوف وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظر السابق وإن كان خاصًّا بالمؤمنين على المختار لكن العمل وجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضًا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنًا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريًا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين. والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناءًا على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم، وقدم بيان كونه بيانًا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي.
وقيل: أل في الناس للجنس. والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه وليس بالبعيد وجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة، وإن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه، ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في موضعين وأما الأول: ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق را يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف.

.تفسير الآية رقم (139):

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال: «انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية: وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم» وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح. وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله هذه الآية»، وأيًا ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأرض} [آل عمران: 137] بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود إلى التفصيل، وا تقدم من قصة أحد إن لم نقل ذلك وبه قال جمع، وجعلوا توسيط حديث الربا استطرادًا أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين، وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضًا.
ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظًا حذوف أي كونوا مجدين ولا تهنوا، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه، والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن شماس، وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم، وسبعون من الأنصار، وقيل: لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك.
{وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال أنكم الأعلون الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر. حكى القرطبي أنهم «لم يخرجوا بعد ذلك عسكرًا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه الصلاة والسلام وكذا في كل عسكر كان بعد، ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم».
أو المراد والحال أنكم أعلى منهم شأنًا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار، واشتراكهم على هذا في العلو بناءًا على الظاهر وزعمهم، وإذا أخذ العلو عنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين، وقيل: المراد: وأنتم الأعلون حالًا منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم.
ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها معترضة بين النهي المذكور وقوله سبحانه: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوفًا أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه، ولا يخفى أن دعوى التعلق مما لا بأس بها لكن الحكم بكون تلك الجملة معترضة معترض بالبعد، ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقًا بالأعلون والجواب محذوف أيضًا أي إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة، ويحتمل أن يراد بالإيمان التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة والظفر على أعداء الله تعالى، ولا اختصاص لهذا الاحتمال بالاحتمال الأخير من احتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم، وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني أجري، أو من قبيل قولك لولدك: إن كنت ابني فلا تعصني، وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا تهنوا ولا تحزنوا لأجل كونكم مؤمنين، أو وأنتم الأعلون لأجل ذلك والقول بأن المراد إن بقيتم على الإيمان ليس له كمال ملاءمة للمقام.

.تفسير الآية رقم (140):

{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف والباقون بالفتح، وهما لغتان كالدف والدف، والضعف والضعف وقال الفراء: القرح بالفتح الجراحة، وبالضم ألمها، ويقرأ بضم القاف والراء على الاتباع كاليسر واليسر، والطنب والطنب وقرأ أبو السمال بفتحهما وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله تعالى ما لا يرجون، والمضارع على ما ذهب إليه العلامة التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى، وأما استعمال إن فبتقدير كان أي إن كان مسكم قرح، وإن لا تتصرف في كان لقوة دلالته على المضي، أو على ما قيل: إن {ءانٍ} قد تجيء لمجرد التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل، وما وقع في موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط بل دليل الجواب، والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم مثله وهم على ما هم عليه، أو يقال: إن مسكم قرح فتسلوا فقد مسّ القوم قرح مثله، والمثلية باعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين، والتزم بعضهم تفسير القرح جرد الانهزام دون تكثير القتلى فرارًا من هذا الإيراد، وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى فقال: الأوجه أن يقال: إن المراد إن يمسسكم قرح فلا تنهوا لأنه مس القوم أي الرجال قرح مثله والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى له، وبهذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره، وكذا يندفع ما قيل: إن قرح القوم لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج إلى ما تقدم من الجواب. وقيل: إن كلا المسَّين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا منهم نيفًا وعشرين رجلًا أحدهم صاحب لوائهم، وجرحوا عددًا كثيرًا وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقيل: إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين.
{وَتِلْكَ الايام} اسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحو ربه رجلًا ومثله يفيد التفخيم والتعظيم، والأيام عنى الأوقات لا الأيام العرفية، وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية، ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولًا أوليًا.
{نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد، والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى واحد، و{الناس} عام، وفسره ابن سيرين بالأمراء، واسم الإشارة مبتدأ، والأيام خبره، و{نُدَاوِلُهَا} في موضع الحال، والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الأيام صفة أو بدلًا أو عطف بيان، و{نُدَاوِلُهَا} هو الخبر، و{بَيْنَ الناس} ظرف لنداولها، وجوز أن يكون حالًا من الهاء، وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم: الأيام دول والحرب سجال، وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين، وقرئ يداولها.
{وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ} تعليل لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل، وهي المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين؛ أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما، والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين محذوفة للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل: نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور، وأن العبد يسوؤه ما يجري عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف، كأنه قيل: نجعلها دولًا بينكم لتكون حكمًا وفوائد جمة وليعلم إلخ، وفيه من تأكيد التسلية ما لا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعيينًا أو إبهامًا لعدم تعلق الغرض العلمي ببيانها، ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالًا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل: نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد وليعلم إلخ، فاللام الأولى: متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد، والثانية: باعتبار تقييده بالفرد المعهود قاله مولانا شيخ الإسلام.
وجوزوا أن يكون الفعل معطوفًا على ما قبله باعتبار المعنى كأنه قيل: داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وليعلم إلخ، وقيل: إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخرًا، والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك، ومنهم من زعم زيادة الواو وهو من ضيق المجال والكلام من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم، والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.
وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل، واختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه الجزاء. وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة. وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإشعار بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره.
وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه استغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه، ومثله القول بحذف المضاف أي صبر الذين، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته التي استجمعها هذا الاسم الأعظم مغاير لمنشأ الآخر.
{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحق، ومن ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بيتخذ أو حذوف وقع حالًا من {شُهَدَاء}، وقيل: جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودًا معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، ومن على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143] ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان وفلان أخوها وزوجها أو زوجها وابنها فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: حيّ قالت: فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت، {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} وكنى بالإتخاذ عن الإكرام لأن من اتخذ شيئًا لنفسه فقد اختاره وارتضاه فالمعنى ليكرم أناسًا منكم بالشهادة.
{والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي يبغضهم، والمراد من الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم، وإما عنى الكافرين المجاهرين بالكفر، وأيًا ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها، وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغله أحيانًا استدراجًا له وابتلاءًا للمؤمن، وأيضًا لو كانت النصرة دائمًا للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل، والمقصود غير ذلك.